فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كانت العادة جارية بأن من أحضر إليه شيء تبادر إلى أمهر بقوله أو فعل، وصل بذلك ما هو نتيجته، وبدأ بالعاصي لأن المقام له، فقال ما يدل على أنه لا وزن له، فلا وقفة في عذابه بحسابه ولا غيره، مؤكدًا خطابًا للمؤكد بالإلقاء أو خطابًا للسائق والشهيد، أو السائق وحده مثنيًا لضميره تثنية للأمر كأنه قال: ألق ألق- تأكيدًا له وتهويلًا: {ألقيا} أي اطرحا دفعًا من غير شفقة، وقيل: بل هو تثنية وأصل ذلك أن الرفقة أدنى ما يكون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على صاحبه، ألا ترى أن الشعراء أكثر شيء قيلًا: يا صاحبيّ يا خليليّ، والسر فيه إذا كان المخاطب واحدًا إفهامه أنه يراد منه الفعل بجد عظيم تكون قوته فيه معادلة لقوة اثنين {في جهنم} أي النار التي تلقى الملقى فيها بما كان يعامل به عباد الله من الكبر والعبوسة والتكره والتعصب.
ولما كان المقصود تعليل إلقائه بوصف يعم غيره ليكون لطفًا لمن أراد الله عصمته ممن سمع هذا المقال وحجة على من أراد الله إهانته: {كل كفار عنيد} أي مبالغ في ستر الحق والمعاداة لأهله من غير حجة حمية وأنفة نظرًا إلى استحسان ما عنده والثبات عليه تجبرًا وتكبرًا على ما عند غيره ازدراء له كائنًا من كان {مناع} أي كثير المنع {للخير} من {مريب} أي داخل في الريب وهو الشك والتهمة في أمر الدين، وموقع غيره فيه، ثم أبدل من كل قوله بيانًا لمبالغته في الكفر الذي أوجب له كل شر {الذي جعل} كفرًا مضاعفًا وعنادًا ومنعًا للخير الذي يجب عليه في قلبه ولسانه وبدنه، وتجاوزًا للحدود دخولًا في الشك وإدخالًا لغيره فيه {مع الله} أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال، فليس أمره خفيًا عن كل ذي عقل {إلهًا}.
ولما كان ربما تعنت متعنت فنزل الآية على من يدعو الله بغير هذا الاسم الأعظم، صرح بالمراد بقوله: {آخر} وزاد الكلام أنه مأخوذ من التأخر الناظر إلى الرداءة والسقوط عن عين الاعتبار بالكلية.
ولما كان هذا قد جحد الحق الواجب لله لذاته مع قطع النظر عن كل شيء ثم ما يجب له من جهة ربوبيته وإنعامه على كل موجود، ثم من جهة إدامة إحسانه مع المعصية بالحلم، وعاند في ذلك وفي إثباته للغير ما لا يصح له بوجه من الوجوه، سبب عن وصفه قوله: {فألقياه في العذاب} أي الذي يزيل كل عذوبة {الشديد}.
ولما كان القرين قد قال ما تقدم مريدًا به- جهلًا منه- الخلاص من العذاب بإظهار أنه ليس بأوصاف هذه النفس، بل من كبار المؤمنين، فأجيب مقاله بإلقاء تلك النفس معللًا للأمر بإلقائها بما شمل هذا القرين، فتشوف السامع إلى ما يكون من حاله، وكانت العادة جارية أن من تكلم في شخص بما فيه مثله ولاسيما إن كان هو السبب فيه أو كان قد تكلم ذلك الشخص فيه، فكان قياس ذلك يقتضي ولا بد أن تقول تلك النفس القول فيها، وهذا عند الأمر بإلقائها: ربنا هو أطغاني: أجاب تعالى عند هذا التشوف بقوله: {قال قرينه} مناديًا بإسقاط الأداة دأب أهل أهل القرب إيهامًا أنه منهم: {ربنا} أيها المحسن إلينا أيتها الخلائق كلهم {ما أطغيته} أي أوقعته فيما كان فيه من الطغيان، فإنه لا سلطان لي عليه وأنت أعلم بذلك {ولكن كان} بجبلته وطبعه {في ضلال بعيد} محيط به من جميع جوانبه لا يمكن رجوعه معه، فلذلك كان يبادر إلى كل ما يغضب الله، وإن حركته إليه أن فإنه لا يحتاج إلى أدنى تحريك فيثور له ثورة من هو مجبول مركوز في طباعه.
ولما كان كأنه قيل: بم يجاب عن هذا؟ وهل يقبل منه؟ قيل: لا {قال} أي الملك المحيط علمًا وقدرة الذي حكم عليهم في الأزل: {لا تختصموا} أي لا توقعوا الخصومة بهذا الجد والاجتهاد {لديَّ} أي في دار الجزاء بهذه الحضرة التي هي فوق ما كنتم تدركونه من الأخبار عنها بكثير، وأعجب بما يدرك حق الإدراك، فقد أتم انكشاف ما كان يستغربه الخاصة بل خاصة الخاصة، ففات بانكشافها نفع إيمان جديد {وقد} أي والحال أنه قد {قدمت} أي تقدمت، أي أمرت وأوصيت قبل هذا الوقت موصلًا ومنهيًا {إليكم} أي كل ما ينبغي تقديمه حتى لم يبق لبس ولا تركت لأحد حجة بوجه، وجعلت ذلك رفقًا بكم ملتبسًا {بالوعيد} أي التهديد وهو التخويف العظيم على جميع ما ارتكبتموه من الكفران والعدوان في الوقت الذي كانت فيه هذه الحضرة التي هي غيب الغيب ومستورة بستائر الكبرياء والعظمة وبل كان ما دونها من الغيب مستورًا، فكان الإيمان به نافعًا.
ولما كانت الأوقات كلها عنده سبحانه حاضرة، عبر سبحانه في تعليل ذلك ب ما التي للحاضر دون لا التي للمستقبل فقال: {ما يبدل} أي يغير من مغير ما كان من كان بوجه من الوجوه بحيث يجعل له بدل فيكون فيه خلف {القول لدي} أي الواصل إليكم من حضرتي التي لا يحاط بأمر غرابتها بأن من أشرك بي لا أغفر له وأغفر ما دون ذلك لمن أشاء، والعفو عن بعض المذنبين ليس تبديلًا لأن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد، وأنه مشروط بشرائط {وما أنا} وأكد النفي فقال: {بظلام} أي بذي ظلم {للعبيد} لا القرين ولا من أطغاه ولا غيرهم، فأعذب من لا يستحق أو أعفو عمن قلت: إني لا أغفر له وأمرت جندي فعادوه فيّ، ولو عفوت عنه كنت مع تبديل القول قد سؤتهم بإكرام من عادوه فيّ ليس إلا.
ولما كان هذا التقاول مما يهول أمره ويقلع القلوب ذكره، صور وقته بصورة تزيد في ذلك الهول، وينقطع دون وصفها القول، ولا يطمع في الخلاص منها بقوة ولا حول، فقال ما معناه: يكون هذا كله {يوم} ولما كان المقصود الإعلام بأن النار كبيرة مع ضيقها، فهي تسع من الخلائق ما لا يقع تحت حصر، وأنها مع كراهتها لمن يصلاها وتجهمها لهم تحب تهافتهم فيها وجلبهم إليها عبر عنه على طريق الكناية بقوله: {نقول} أي على ما لنا من العظمة التي لا يسوغ لشيء أن يخفى عنها {لجهنم} دار العذاب مع الكراهة والعبوسة والتجهم إظهارًا للهول بتصوير الأمر المهدد به، وتقريع الكفار، وتنبيه من يسمع هذا الخبر عن هذا السؤال من الغفلة: {هل امتلأت} فصدق قولنا {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} [هود: 119] وذلك بعد أن يلقى فيها من الخلائق ما لا يحيط به الوصف، فتقول: لا، {وتقول} طاعة لله ومحبة في عذاب أعدائه وإخبارًا بأنها لم تمتلىء لأن النار من شأنها أنها كلما زيدت حطبًا زادت لهبًا: {هل من مزيد} أي زيادة أو شيء من العصاة إزادة، سواء كان كثيرًا أو قليلًا، فإني أسع ما يؤتى به إليّ ولا تزال كذلك كما ورد في الحديث «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع الجبار فيها قدمه» أي يضربها من جبروته بسوط إهانة فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط وعزتك، ثم يستمرون بين دولتي الحر والزمهرير، وقد جعل الله سبحانه لذلك آية في هذه الدار باختلاف الزمان في الحر والبرد، فإذا أفرط الحر جاءت رحمته تعالى بالبرد وبالماء من السماء فامتزجا معًا فكان التوسط، وإذا أفرط البرد جاءت رحمته بالحر بواسطة الشمس، فامتزج الموجدان، فكان له توسط، وكل ذلك له دوائر موزونة بأقساط مقسطة معلومة بتقدير العزيز العليم- ذكر ذلك ابن برجان. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَقال قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)} وفي القرين وجهان:
أحدهما الشيطان الذي زين الكفر له والعصيان وهو الذي قال تعالى فيه {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء} [فصلت: 25] وقال تعالى: {نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] وقال تعالى: {فَبِئْسَ القرين} [الزخرف: 38] فالإشارة بهذا المسوق إلى المرتكب الفجور والفسوق، والعتيد معناه المعد للنار وجملة الآية معناها أن الشيطان يقول هذا العاصي شيء هو عندي معد لجهنم أعددته بالإغواء والإضلال، والوجه الثاني {وَقال قَرِينُهُ} أي القعيد الشهيد الذي سبق ذكره وهو الملك وهذا إشارة إلى كتاب أعماله، وذلك لأن الشيطان في ذلك الوقت لا يكون له من المكانة أن يقول ذلك القول، ولأن قوله: {هذا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ} فيكون عتيد صفته، وثانيهما أن تكون موصولة، فيكون عتيد محتملًا الثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون خبرًا بعد خبر والخبر الأول {مَا لَدَىَّ} معناه هذا الذي هو لدي وهو عتيد وثانيها: أن يكون عتيد هو الخبر لا غير، و{مَا لَدَىَّ} يقع كالوصف المميز للعتيد عن غيره كما تقول هذا الذي عند زيد وهذا الذي يجيئني عمرو فيكون الذي عندي والذي يجيئني لتمييز المشار إليه عن غيره ثم يخبر عنه بما بعده ثم يقال للسائق أو الشهيد {أَلْقِيَا في جَهَنَّمَ} فيكون هو أمرًا لواحد، وفيه وجهان أحدهما أنه ثنى تكرار الأمر كما ألق ألق، وثانيهما عادة العرب ذلك.
وقوله: {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} الكفار يحتمل أن يكون من الكفران فيكون بمعنى كثير الكفران، ويحتمل أن يكون من الكفر، فيكون بمعنى شديد الكفر، والتشديد في لفظة فعال يدل على شدة في المعنى، والعنيد فعيل بمعنى فاعل من عند عنودًا ومنه العناد، فإن كان الكفار من الكفران، فهو أنكر نعم الله مع كثرتها.
وقوله تعالى: {مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ} فيه وجهان:
أحدهما: كثير المنع للمال الواجب، وإن كان من الكفر، فهو أنكر دلائل وحدانية الله مع قوتها وظهورها، فكان شديد الكفر عنيدًا حيث أنكر الأمر اللائح والحق الواضح، وكان كثير الكفران لوجود الكفران منه عند كل نعمة عنيد ينكرها مع كثرتها عن المستحق الطالب، والخير هو المال، فيكون كقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة} [فصلت: 6، 7] حيث بدأ ببيان الشرك، وثنى بالامتناع من إيتاء الزكاة، وعلى هذا ففيه مناسبة شديدة إذا جعلنا الكفار من الكفران، كأنه يقول: كفر أنعم الله تعالى، ولم يؤد منها شيئًا لشكر أنعمه ثانيهما: شديد المنع من الإيمان فهو مناع للخير وهو الإيمان الذي هو خير محض من أن يدخل في قلوب العباد، وعلى هذا ففيه مناسبة شديدة إذا جعلنا الكفار من الكفر، كأنه يقول: كفر بالله، ولم يقتنع بكفره حتى منع الخير من الغير.
وقوله تعالى: {مُعْتَدٍ}.
فيه وجهان أحدهما: أن يكون قوله: {مُعْتَدٍ} مرتبًا على {مَّنَّاعٍ} بمعنى مناع الزكاة، فيكون معناه لم يؤد الواجب، وتعدى ذلك حتى أخذ الحرام أيضًا بالربا والسرقة، كما كان عادة المشركين وثانيهما: أن يكون قوله: {مُعْتَدٍ} مرتبًا على {مَّنَّاعٍ} بمعنى منع الإيمان، كأنه يقول: منع الإيمان ولم يقنع به حتى تعداه، وأهان من آمن وآذاه، وأعان من كفر وآواه.
وقوله تعالى: {مُرِيبٍ}.
فيه وجهان أحدهما: ذو ريب، وهذا على قولنا: الكفار كثير الكفران، والمناع مانع الزكاة، كأنه يقول: لا يعطي الزكاة لأنه في ريب من الآخرة، والثواب فيقول: لا أقرب مالًا من غير عوض وثانيهما: {مُرِيبٍ} يوقع الغير في الريب بإلقاء الشبهة، والإرابة جاءت بالمعنيين جميعًا، وفي الآية ترتيب آخر غير ما ذكرناه، وهو أن يقال: هذا بيان أحوال الكفر بالنسبة إلى الله، وإلى رسول الله، وإلى اليوم الآخر، فقوله: {كَفَّارٍ عَنِيدٍ} إشارة إلى حاله مع الله يكفر بعد ويعاند آياته، وقوله: {مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ} إشارة إلى حاله مع رسول الله، فيمنع الناس من اتباعه، ومن الإنفاق على من عنده، ويتعدى بالإيذاء وكثرة الهذاء، وقوله: {مُرِيبٍ} إشارة إلى حاله بالنسبة إلى اليوم الآخر يريب فيه ويرتاب، ولا يظن أن الساعة قائمة، فإن قيل قوله تعالى: {أَلْقِيَا في جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ} إلى غير ذلك يوجب أن يكون الإلقاء خاصًا بمن اجتمع فيه هذه الصفات بأسرها، والكفر كاف في إيراث الإلقاء في جهنم والأمر به، فنقول قوله تعالى: {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} ليس المراد منه الوصف المميز، كما يقال: أعط العالم الزاهد، بل المراد الوصف المبين بكون الموصوف موصوفًا به إما على سبيل المدح، أو على سبيل الذم، كما يقال: هذا حاتم السخي، فقوله: {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} يفيد أن الكفار عنيد ومناع، فالكفار كافر، لأن آيات الوحدانية ظاهرة، ونعم الله تعالى على عبده وافرة، وعنيد ومناع للخير، لأنه يمدح دينه ويذم دين الحق فهو يمنع، ومريب لأنه شاك في الحشر، فكل كافر فهو موصوف بهذه الصفات.
{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)}.
فيه ثلاثة أوجه أحدها: أنه بدل من قوله: {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 24] ثانيها: أنه عطف على {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} ثالثها: أن يكون عطفًا على قوله: {أَلْقِيَا في جَهَنَّمَ} كأنه قال: (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد) أي والذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه بعد ما ألقيتموه في جهنم في عذاب شديد من عذاب جهنم.
ثم قال تعالى: {قال قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)}.
وهو جواب لكلام مقدر، كأن الكافر حينما يلقى في النار يقول: ربنا أطغاني شيطاني، فيقول الشيطان: ربنا ما أطغيته، يدل عليه قوله تعالى بعد هذا {قال لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ} [ق: 28] لأن الاختصام يستدعي كلامًا من الجانبين وحينئذ هذا، كما قال الله تعالى في هذه السورة وفي ص {قالواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَبًا بِكُمْ} [ص: 60] وقوله تعالى: {قالواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ} إلى أن قال: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} [ص: 61، 64] وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال الزمخشري: المراد بالقرين في الآية المتقدمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيد، واستدل عليه بهذا.
وقال غيره، المراد الملك لا الشيطان، وهذا يصلح دليلًا لمن قال ذلك، وبيانه هو أنه في الأول لو كان المراد الشيطان، فيكون قوله: {هذا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ} [ق: 23] معناه هذا الشخص عندي عتيد متعد للنار اعتدته بإغوائي، فإن الزمخشري صرّح في تفسير تلك بهذه، وعلى هذا فيكون قوله: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} مناقضًا لقوله اعتدته وللزمخشري أن يقول الجواب: عنه من وجهين أحدهما: أن يقول إن الشيطان يقول اعتدته بمعنى زينت له الأمر وما ألجأته فيصح القولان من الشيطان وثانيهما: أن تكون الإشارة إلى حالين: ففي الحالة الأولى إنما فعلت به ذلك إظهارًا للانتقام من بني آدم، وتصحيحًا لما قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] ثم إذا رأى العذاب وأنه معه مشترك وله على الإغواء عذاب، كما قال تعالى: {فالحق والحق أَقول لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ} [ص: 84، 85] فيقول: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} فيرجع عن مقالته عند ظهور العذاب.
المسألة الثانية:
قال هاهنا {قال قرِينُهُ} من غير واو، وقال في الآية الأولى {وَقال قَرِينُهُ} [ق: 23] بالواو العاطفة، وذلك لأن في الأول الإشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين، وأن كل نفس في ذلك الوقت تجيء ومعها سائق، ويقول الشهيد ذلك القول، وفي الثاني لم يوجد هناك معنيان مجتمعان حتى يذكر بالواو، والفاء في قوله: {فألقياه في العذاب} [ق: 26] لا يناسب قوله تعالى: {قال قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} مناسبة مقتضية للعطف بالواو.
المسألة الثالثة:
القائل هاهنا واحد، وقال: {رَبَّنَا} ولم يقل رب، وفي كثير من المواضع مع كون القائل واحدًا، قال رب، كما في قوله: {قال رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] وقول نوح {رَبّ اغفر لِى} [نوح: 28] وقوله تعالى: {قال رَبّ السجن أَحَبُّ إِلَىَّ} [يوسف: 33] وقوله: {قالتْ رَبّ ابن لِى عِندَكَ بَيْتًا في الجنة} [التحريم: 11] إلى غير ذلك، وقوله تعالى: {قال رَبّ أَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص: 79] نقول في جميع تلك المواضع القائل طالب، ولا يحسن أن يقول الطالب: يا رب عمرني واخصصني وأعطني كذا، وإنما يقول: أعطنا لأن كونه ربًا لا يناسب تخصيص الطالب، وأما هذا الموضع فموضع الهيبة والعظمة وعرض الحال دون الطلب فقال: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ}.